فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل في لفظ الصِّرِّ في القرآن:

قال أبو العبَّاس المقرئ: ورد لفظ الصِّرِّ في القرآن على ثلاثة أوجهٍ:
الأول: بمعنى القطع؛ كهذه الآية، أي: قطِّعهنَّ إليك صورًا.
الثاني: بمعنى الريح الباردة، قال تعالى: {رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} [آل عمران: 117] أي: بردٌ.
الثالث: يعني الإقامة على الشيء؛ قال تعالى: {وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ} [آل عمران: 135]، أي: لم يقيموا، ومثله: {وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الحنث العظيم} [الواقعة: 46].
ونقل عن الفرَّاء أيضًا: أنه قال: صَارَه مقلوبٌ من قولهم: صَرَاهُ عَنْ كَذَا، أي: قطعه عنه، ويقال: صُرْتُ الشيء، فانصار، أي: انقطع؛ قالت الخنساء: البسيط:
فَلَوْ يُلاَقِي الَّذي لاَقَيْتُهُ حَضِنٌ ** لَظَلَّتِ الشُّمُّ مِنْهُ وَهْيَ تَنْصَارُ

أي: تنقطع.
قال المبرد: وهذا لا يصحُّ؛ لأنَّ كلَّ واحد من اللفظين أصل بنفسه فرع على الآخر.
واختلف في هذه اللفظة: هل هي عربيةٌ، أو معرَّبة؟ فعن ابن عباس: أنها معرَّبة من النَّبطية، وعن أبي الأسود، أنَّها من السُّريانية، والجمهور على أنها عربيةٌ، لا معرَّبةٌ.
وإِلَيْكَ إن قلنا: إِنَّ {صُرْهُنَّ} بمعنى أملهنَّ: تعلَّق به، وإن قلنا: إنه بمعنى: قطِّعهنَّ، تعلَّق بخُذْ.
ولمَّا فسَّر أبو البقاء {فَصُرْهُنَّ} بمعنى: أَمْلْهُنَّ قدَّر محذوفًا بعده تقديره: فأملهنَّ إليك، ثم قطِّعهنَّ، ولمَّا فسَّره بقطِّعهن- كما تقدم- قدَّر محذوفًا يتعلَّق به إِلَى تقديره: قطِّعهنَّ بعد أن تميلهنَّ إليك. ثم قال: والأجودُ عندي أن يكون إليك حالًا من المفعول المضمر تقديره: فقطِّعهنَّ مقرَّبةً إليك، أو ممالةً، أو نحو ذلك.
وقرأ ابن عباس رضي الله عنه: {فَصُرْهُنَّ} بتشديد الراء، مع ضم الصاد وكسرها، مِنْ: صرَّه يَصُرّه، إذا جمعه؛ إلاَّ أنَّ مجيء المضعَّف المتعدِّي على يفعل- بكسر العين في المضارع- قليلٌ.
قوله: {ثُمَّ اجعل} جَعَلَ يحتمل أن يكون بمعنى الإلقاء، فيتعدَّى لواحدٍ، وهو {جُزْءًا}، فعلى هذا يتعلَّق {عَلَى كُلِّ} و{مِنْهُنَّ} ب {اجعل}، وأن يكون بمعنى صَيَّر، فيتعدَّى لاثنين، فيكون {جُزءًا} الأول، و{عَلَى كُلِّ} هو الثاني، فيتعلَّق بمحذوفٍ.
و{منهنَّ} يجوز أن يتعلَّق على هذا بمحذوفً على أنَّه حالٌ من {جُزْءًا}، لأنه في الأصل صفة نكرة، فلمَّا قُدِّم عليها، نصب حالًا.
وأجاز أبو البقاء أن يكون مفعولًا ل {اجْعَلْ} يعني: إذا كانت {اجْعَلْ} بمعنى صَيَّر، فيكون {جُزْءًا} مفعولًا أول، و{منهنَّ} مفعولًا ثانيًا قدِّم على الأول، ويتعلَّق حينئذٍ بمحذوف. ولابد من حذف صفةٍ مخصِّصة بعد قوله: {كُلِّ جَبَلٍ} تقديره: عَلَى كُلِّ جبلٍ بحضرتك، أو يليك حتى يصحَّ المعنى.
وقرأ الجمهور: {جُزْءًا} بسكون الزاي والهمز، وأبو بكر ضمَّ الزاي، وأبو جعفر شدَّد الزاي، من غير همزٍ؛ ووجهها: أنَّه لمَّا حذف الهمزة، وقف على الزاي، ثم ضعَّفها، كما قالوا: هذا فَرَجّ، ثم أُجري الوصل مجرى الوقف. وقد تقدم تقرير ذلك عند قوله: {هُزُوًا} [البقرة: 67]. وفيه لغةٌ أخرى وهي: كسر الجيم.
قال أبو البقاء: وَلاَ أَعْلَمُ أَحَدًا قرأ بها. والجزء: القطعة من الشيء، وأصل المادَّة يدلُّ على القطع، والتفرق، ومنه: التجزئة والأجزاء.
قوله: {سَعْيًا} فيه أوجه:
أحدها: أنه مصدرٌ واقعٌ موقع الحال من ضمير الطير، أي: يَأتينك ساعياتٍ، أو ذوات سعي.
والثاني: أن يكون حالًا من المخاطب، ونقل عن الخليل ما يقوِّي هذا، فإنه روي عنه: أن المعنى: يأتينك وأنت تسعى سعيًا فعلى هذا يكون سعيًا منصوبًا على المصدر، وذلك الناصب لهذا المصدر في محلِّ نصب على الحال من الكاف في {يَأْتِينَكَ}. قال شهاب الدين: والذي حمل الخليل رحمه الله على هذا التقدير؛ أنه لا يقال عنده: سَعَى الطائرُ فلذلك جعل السَّعي من صفات الخليل عليه السلام لا من صفة الطيور.
الثالث: أن يكون سَعْيًا منصوبًا على نوع المصدر؛ لأنه نوعٌ من الإتيان، إذ هو إتيانٌ بسرعةٍ، فكأنه قيل: يأتينك إتيانًا سريعًا.
وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون مصدرًا مؤكِّدًا؛ لأنَّ السعي، والإتيان يتقاربان، وهذا فيه نظرٌ؛ لأن المصدر المؤكِّد لا يزيد على معنى عامله، إلاَّ أنه تساهل في العبارة. اهـ. بتصرف.

.التفسير الإشاري:

قال الألوسي:
ومن باب الإشارة في هذه القصة: {وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْيِىَ الموتى} أي موتى القلوب بداء الجهل {قَالَ أُوْحِى لَّمْ تُؤْمِنُواْ} أي ألم تعلم ذلك علمًا يقينيًا {قَالَ بلى} أعلم ذلك.
ولكن للعيان لطيف معنى ** له سأل المشاهدة الخليل

وهو المشار إليه بقوله سبحانه: {لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى} الذي هو عرشك {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مّنَ الطير} إشارة إلى طيور الباطن التي في قفص الجسم، وهي أربعة من أطيار الغيب والعقل، والقلب، والنفس، والروح {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} أي ضمهن واذبحهن، فاذبح طير العقل بسكين المحبة على باب الملكوت، واذبح طير القلب بسكين الشوق على باب الجبروت، واذبح طير النفس بسكين العشق في ميادين الفردانية، واذبح طير الروح بسكين العجز في تيه عزة أسرار الربانية {ثُمَّ اجعل على كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءا} فاجعل العقل على جبل العظمة حتى يتراكم عليه أنوار سلطنة الربوبية فيصير موصوفًا بها ليدركني بي بعد فنائه في، واجعل القلب على جبل الكبرياء حتى ألبسه سناء قدسي فيتيه في بيداء التفكر منعوتًا بصرف نور المحبة، واجعل النفس على جبل العزة حتى ألبسها نور العظمة لتصير مطمئنة عند جريان ربوبيتي عليها فلا تنازعني في العبودية ولا تطلب أوصاف الربوبية، واجعل الروح على جبل جمال الأزل حتى ألبسها نور النور وعز العز وقدس القدس لتكون منبسطة في السكر مطمئنة في الصحو عاشقة في الانبساط راسخة في التجليات {ثُمَّ ادعهن} ونادهنّ بصوت سر العشق {يَأْتِينَكَ سَعْيًا} إلى محض العبودية بجمال الأحدية {واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ} يعزك بعرفانك هذه المعاني واطلاعك على صفاته القديمة {حَكِيمٌ} في ظهوره بغرائب التجلي لأسرار باطنك، وقد يقال: أشار سبحانه بالأربعة من الطير إلى القوى الأربعة التي تمنع العبد عن مقام العيان وشهود الحياة الحقيقية، ووقع في أثر أنها كانت طاوسًا، وديكًا، وغرابًا، وحمامة، ولعل الطاوس إشارة إلى العجب والديك إلى الشهوة والغراب إلى الحرص، والحمامة إلى حب الدنيا لإلفها الوكر والبرج، وفي أثر بدل الحمامة بطة، وفي آخر نسر، وكان الأول: إشارة إلى الشره الغالب، والثاني: إلى طول الأمل، ومعنى {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} حينئذ ضمهنّ وأملهنّ إليك بضبطها ومنعها عن الخروج إلى طلب لذاتها والنزوع إلى مألوفاتها، وفي الأثر أنه عليه الصلاة والسلام أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويخلط لحومها ودماءها بالدق ويحفظ رؤوسها عنده أي يمنعها عن أفعالها ويزيد هيآتها عن النفس ويقمع دواعيها وطبائعها وعادتها بالرياضة ويبقي أصولها فيه ثم أمر أن يجعل على كل جبل من الجبال التي بحضرته وهي العناصر الأربعة التي هي أركان بدنه جزءًا منهنّ وكأنه عليه الصلاة والسلام أمر بقمعها وإماتتها حتى لا يبقى إلا أصولها المركوزة في الوجود والمواد المعدة في طبائع العناصر التي هي فيه، وفي رواية أن الجبال كانت سبعة فعلى هذا يشير بها إلى الأعضاء السبعة التي هي أجزاء البدن، وفي أخرى أنها كانت عشرة وعليها ربما تكون إشارة إلى الحواس الظاهرة والباطنة، وأشار سبحانه بالأمر بالدعاء إلى أنه إذا كانت هاتيك الصفات حية بحياتها كانت غير منقادة وحشية ممتنعة عن قبول الأمر فإذا قتلت كانت حية بالحياة الحقيقية الموهومة بعد الفناء والمحو وهي حياة العبد وعند ذلك تكون مطيعة منقادة متى دعيت أتت سعيًا وامتثلت طوعًا وذلك هو الفوز العظيم. اهـ.

.تفسير الآية رقم (261):

قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما انقضى جواب السؤال عن الملك الذي لا تنفع عنده شفاعة بغير إذنه ولا خلة ولا غيرهما وما تبع ذلك إلى أن ختم بقصة الأطيار التي صغت إلى الخليل بالإنفاق عليها والإحسان إليها ثنى الكلام إلى الأمر بالنفقة قبل ذلك اليوم الذي لا تنفع فيه الوسائل إلا بالوجه الذي شرعه بعد قوله: {من ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنًا فيضاعفه له} [الحديد: 11] نظرًا إلى أول السورة تذكيرًا بوصف المتقين حثًا عليه، فضرب لذلك مثلًا صريحة لمضاعفتها فاندرج فيه مطلق الأمر بها اندراج المطلق في المقيد وتلويحه الذي هو من جملة المشار إليه بحكيم للاحياء، فصرح بأن النفقة المأمور بها من ذخائر ذلك اليوم الذي لا ينفع فيه إلا ما شرعه وهو من جليل العزة، وساقه على وجه يتضمن إحياء الموات الذي هو أنسب الأشياء لما قبله من نشر الأموات، فهو إيماء إلى الاستدلال على البعث بأمر محسوس، وذلك من دقيق الحكمة، فكأنه سبحانه وتعالى يقول: إن خليلي عليه الصلاة والسلام لما كان من الراسخين في رتبة الإيمان أهّلته لامتطاء درجة أعلى من درجة الإيقان بخرق العادة في رفع الأستار على يده عن إحياء الأطيار وأقمت نمطًا من ذلك لعامة الخلق مطويًا في إحياء النبات على وجه معتاد فمن اعتبر به أبصر ومن عمي عنه انعكس حاله وأدبر فقال سبحانه وتعالى: {مثل} فكان كأنه قيل: {من ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنًا} [الحديد: 11] {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا} [البقرة: 254] فإنه مثل {الذين ينفقون} أي يبذلون {أموالهم} بطيب نفس {في سبيل الله} أي الذي له الكمال كله كمثل زارع مثل ما ينفقون {كمثل حبة} مما زرعه.
قال الحرالي: من الحب وهو تمام النبات المنتهي إلى صلاحية كونه طعامًا للآدمي الذي هو أتم الخلق، فالحب أكمل من الثمرة طعامية والثمرة إدامية {أنبتت} أي بما جعل الله سبحانه وتعالى لها من قوة الإنبات بطيب أرضها واعتدال ريها {سبع سنابل} بأن تشعب منها سبع شعب في كل شعبة سنبلة وهو من السنبل.
قال الحرالي: وهو مجتمع الحب في أكمامه، كأنه آية استحقاق اجتماع أهل ذلك الرزق في تعاونهم في أمرهم، وتعريف بأن الحب يجمعه لا بوحدته {في كل سنبلة مائة حبة} فصارت الحبة سبعمائة حبة بمضاعفة الله لها.
قال الحرالي: فضرب المثل للإنفاق في سبيل الله وذكر السبع لما فيه من التمام بالحرث الذي هو كيميا عباده يشهدون من تثميره حيث تصير الحبة أصلًا ويثمر الأصل سنابل ويكون في كل سنبلة أعداد من الحب، فكان ما ذكر تعالى هو أول الإنفاق في سبيل الله وذكر السبع لما فيه من التمام وما يقبله من التكثير، فإن ما أنبت أكثر من سبع إذا قصد بالتكثير أنبأ عنه بالسبع، لأن العرب تكثر به ما هو أقل منه أو أكثر، فجعل أدنى النفقة في سبيل الله سبعمائة ضعف، ثم فتح تعالى باب التضعيف إلى ما لا يصل إليه عد- انتهى.
فالآية من الاحتباك وتقديرها: مثل الذين ينفقون ونفقتهم كمثل حبة وزارعها، فذكر المنفق أولًا دليل على حذف الزارع ثانيًا، وذكر الحبة ثانيًا دليل على حذف النفقة أولًا. اهـ.